النظر إلى المحرمات (1) التشديد في إطلاق البصر
أما بعدُ عباد الله : نعمةُ البصرِ مِن النِّعم العظيمة التي امْتَنَّ اللهُ - تعالى - بها على العباد مع نعمتَيْ السمع والعقل؛ فبها يَنظرون إلى عجائبِ قدرةِ الله وبديعِ صُنْعِه [قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الخَلْقَ ] {العنكبوت:20} ، وبها يَتَمَتَّعون بما أودَعَه اللهُ في الكون من جمالِ الخلق.عباد الله : نعمةُ البصرِ مِن النِّعم العظيمة التي امْتَنَّ اللهُ - تعالى - بها علينا، وأمَرَنا بشكرِه على هذه النِّعمة العظيمة قال تعالى : ) وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] {النحل:78} ولكنَّ شكرَ هذه النِّعمةِ في النَّاس قليلٌ؛ [قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ] {الملك:23}
ولعظيم نعمةِ الإبصار، وكثرةِ منافعِها، وشدَّةِ الحاجةِ إليها؛ كان فقدُها مصيبةً كبيرةً، يُعَوِّضُ الله - تعالى - مَن صَبَرَ عليها الجَنَّة؛ فعن أنس قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول قال الله سبحانه وتعالى : إذا ابْتَلَيْتُ عَبْدِي بِحَبِيبَتَيْهِ فَصَبَرَ، عَوَّضْتُهُ مِنْهُمَا الْجَنَّةَ - يُرِيدُ عَيْنَيْهِ))؛ رواه البخاري.
ولكنْ هذه النعمةُ العظيمةُ تنقلبُ إلى نقمةٍ، حين يُطلقُها صاحبُها فيما حرَّم اللُه – تعالى - عليه، فَيَكتَسبُ بها آثامًا كثيرة، ويَحملُ بسببِها أوزارًا ثقيلة؛ ذلك أنَّ العبدَ يُسألُ يوم القيامة عن نعمةِ البصر: فِيمَ سخرَّها وكيف انتفع بها؟ فإنْ سخرَّها فيما يُرضِي اللهَ عادتْ عليه بالخير والأجر، وإنْ سخرَّها في معصية الله بَاءَ بالإثم والوِزْر؛ قال تعالى [ إِنَّ السَّمْعَ وَالبَصَرَ وَالفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا] {الإسراء:36} ، وأخبرَنا ربنُّا - جَلَّ جلالُه - أنَّ الأبصار َتكونُ من الشهود يوم القيامة [حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ] {فصِّلت:20} ، وثَبَت في الأحاديث أنَّ العبدَ يُختمُ على فيه وتنطقُ جوارحُه بأعمالِه السَّيِّئة، ومن جوارحِه عيناه تشهدان عليه بما نظر إليه.
وجاء نهيٌ صريحٌ في القرآن عن الاغترار بزينة الدنيا، وإدامة النظر إلى المباح منها؛ لئلا تتعلَّق القلوبُ بها، فكيف إذن بالمحرمات؟! [وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ ] {طه:131}
عباد الله : إنَّ ربَّنا - تبارك وتعالى - محاسبُنا على أعمالنا، ويُجازينا بها، وقد أمَرَنا بغضِّ أبصارنا عما حرَّم علينا، فخصَّ الرجالَ بقوله [قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ] {النور:30} ، وخصَّ النساءَ بقوله [وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ ] {النور:31} ، فكما أنَّه لا يجوز للرجل أن يقصدَ النظر إلى المرأة التي لا تَحلُّ له، فكذلك المرأةُ لا يجوز لها أن تقصدَ النظرَ إلى الرجال الأجانب عنها.
عباد الله : إنَّ التَّلذُّذ بالنظر المُحرَّم إلى النساء بالنسبة للرجال، أو للرجال بالنسبة للنساء، سواء كان ذلك مباشرة أم في الأفلام والمسلسلات الهابطة او غير ذلك ، هو نوعُ زنا يقعُ فيه العبدُ لا محالةَ؛ لقوة الداعي، وضعف النفس، وغلبة الهوى، وتسَلُّطِ الشيطان ؛ ولذا قال النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم (إِنَّ الله كَتَبَ على ابن آدَمَ حَظَّهُ من الزِّنَا، أَدْرَكَ ذلك لا مَحَالَةَ، فَزِنَا الْعَيْنِ النَّظَرُ، وَزِنَا اللِّسَانِ الْمَنْطِقُ، وَالنَّفْسُ تتمنى وَتَشْتَهِي، وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذلك كُلَّهُ أو يكذبه))؛ رواه الشيخان.
وقد أخبر النبيِّ – صلَّى اللهُ عليه وسلَّم - أنَّ المرأةَ تُقْبِلُ في صورة شيطان، وتُدبرُ في صورة شيطان؛ وما ذاك إلا لعظيم افتتان الرجل بها؛ وفتنةُ الرجل بالنساء أعظمُ من الفتنة بأي شيءٍ آخر؛ كما قال النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم - قال: ((ما تَرَكْتُ بَعْدِي فِتْنَةً أَضَرَّ على الرِّجَالِ من النِّسَاءِ))؛ متفق عليه.
وهي أوَّل فتنة وقع فيها بنو إسرائيل.
عباد الله : الاستئذان إنما جُعِل لأجل النظر، ومن تَلصَّصَ على الناس في بيوتهم، فطعَنَه صاحبُ الدَّار، فأذهبَ عينَه - فهو هَدَر، لا قَصَاصَ له ولا دِيَة؛ قال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم -: (لو اطلع في بيتك أحد ولم تأذن له فخذفته بحصاة ففتأت عينه ما كان عليك من جناح . ( متفق عليه )
ولأجل هذا التَّشديد في غضِّ البصر عن محارم الله – تعالى - كان السلفُ حَذِرين جدًّا من إطلاق أبصارهم، ويُرَبُّون غيرَهم على الاحتراز في النظر؛ طاعةً لله وشكراً له على هذه النعمة الجليلة، وتسخيرًا لها فيما يُرضيه وحَذَرًا من اكتساب الآثام؛
عباد الله : لقد بالغ السَّلفُ والتابعين في الغضِّ؛ حذرًا من فتنة النظر، وخوفًا من عقوبتِه،
خرج حسَّانُ بنُ أبي سنان - رحمه الله تعالى - يومَ عيد، فلمَّا عاد قالت له امرأته: "كم من امرأة حسناءَ قد رأيت؟ فقال: والله ما نظرت إلا في إبهامي منذُ خرجتُ من عندكِ إلى أنْ رجعتُ إليك".
وقال خالد بن أبي عمران – رحمه الله تعالى -: "لا تُتْبِعَنَّ النظرةَ النظرةَ، فرُبَّما نَظرَ العبدُ نظرةً نَغَلَ منها قلبُه كما يَنْغِلُ الأَدِيمُ فلا يَنتفعُ به"؛ أي: يَفسَدُ فسادًا لا صلاحَ بعده.
أقولُ قولي هذا، وأستغفرُ اللهَ لي ولكم
الخطبة الثانية
أما بعدُ عباد الله : البصرُ هو الباب الأكبرُ إلى القلب، وأَعَمَرُ طرقِ الحواسِّ إليه، ولذلك وجب التحذير منه، وغضُّه واجبٌ عن جميع المحرَّمات وكلُّ ما يُخشَى الفتنة من أجله.
قال شيخُ الإسلام ابنُ تيمية - رحمه الله تعالى -: "النَّظر داعِيةٌ إلى فساد القلب، قال بعضُ السَّلف: النظر سهمُ سمٍّ إلى القلب".
وكان بعضُ السَّلف يُحاسِبُ نفسَه على هفوةٍ واحدة، ونظرةٍ خاطفة، في حالة ضعفٍ بشري؛
والعقوبةُ على إطلاقِ البصر في الحرام قد لا تقعُ إلا بعد حين؛ قال أبو عبدالله بن الجلاء: "كنت واقفًا أنظرُ إلى غلامٍ نصراني حَسَنِ الوجه، فمَرَّ بي أبو عبدالله البلخي فقال: إيش وقوفُك؟ فقلت: يا عم، ما ترى هذه الصورة تعذب بالنار! فضَربَ بيدِه بين كَتِفَيَّ وقال: لَتَجِدَنَّ غِبَّها ولو بعد حين، قال ابنُ الجلاء: فوجدتُّ غِبَّهَا بعد أربعين سنة، أُنسيتُ القرآن".
عباد الله : إذا تقرَّر ذلك وعُلِم ما في إطلاق البصر بالنظر من الخطر على الناس رجالاً ونساءً، فإنَّ المحنةَ بذلك شديدةٌ في هذا العصر، والبلاءَ به عظيمٌ؛ إذ إنَّ من أكبر سماتِ هذا العصر: كثرةُ النساء السَّافرات المتبَرِّجات، وانتشارُ ظاهرةِ العُري والاختلاط في الأرض، ولو قيل: إنَّ أكثرَ معصيةٍ يقعُ فيها الناسُ في هذا الزمن هي إطلاقُ البصر في المحرَّمات، لما كان ذلك بعيداً؛ إذ إنَّ المحرَّمات تُحاصِرُ الناسَ في كلِّ مكان، في الشارع وفي الاسواق والمدارس والجامعات تَعُجُّ بالمتبرجات ؛ إذ إنَّ التَّكشُّف والعُرْي هو صفةُ أكثر بلاد الدنيا.
وأعظمُ من ذلك أنَّ معصيةَ النظر إلى المحرمات قد اقتحمَتْ على الناس بيوتَهم، وغَزَتْهم في مجالسِهم وفُرُشِهم؛ حيثُ الفضائيَّات المليئة بأنواع النساء الرخيصات اللواتي يَعرضْنَ أجسادَهنَّ ومفاتِنَهنَّ للمشاهدين في أغانٍ ماجِنة، وأفلامٍ هابطةٍ، وغيرِ ذلك، ، والواجبُ على العباد مجاهدةُ نفوسِهم على غضِّ الأبصار، ومجانَبَةِ الحرام قدرَ المستطاع، مع دوام التوبة والاستغفار.
تعليقات
إرسال تعليق