الابتسامة
عباد الله: سأتكلم وإياكم عن لغة لا تحتاج إلى ترجمة، أجمل شيء في الوجود، بل هي مفتاح ٌ القلوب، فعلها لا يكلف شيئا، لا تستغرق أكثر من لمحة بصر، لكن أثرها يخترق القلوب، يسلِبُ العقول، يُذهب الأحزان، يُصفي النفوس، يكسر الحواجز مع بني الإنسان، شمعةُ أمل تبعث الحياة من جديد تزيل كل معالم الوحشة والنفور من الصدور الضائقة والقلوب الحاقدة ، تذيب الغضب المتراكم ، تعطر الأجواء بنسمات الحب والود والارتياح والطمأنينة إنها إحدى اللغات الصعبة التي يفهما الكل ولكن لا يستطيع التحدث والتعامل معها إلا القليل، إنها أسرع سهم تملك به القلوب وهي مع ذلك عبادة وصدقة منسية، وسنة من سنن الحبيب فعلها محمد صلى الله عليه وسلم، وتعبَّد بها خلقٌ كثيرٌ ممن سار على نهجه.... هي صفة من أجمل واروع صفات الإيجابيين والناجحين فما هذا الخلق الجميل وما هذه الحركة البسيطة التي إذا أطلقت فعلت أكثر مما تفعله أكبر مغريات العالم من التأثير. إنها الابتسامة تلك الحركة البسيطة التي يُفتح بها المنغلق من قلوب البشر. وهي التي قالوا عنها: جمال الوجه بابتسامته البريئة.عباد الله: حينما يقلب المسلم سيرة النبي لا ينقضي عجبه من جوانب العظمة والكمال في شخصيته العظيمة صلوات ربي وسلامه عليه. ومن جوانب تلك العظمة ذلك التوازن والتكامل في أحواله كلها، واستعماله لكل وسائل تأليف القلوب وفي جميع الظروف. ومن أكبر تلك الوسائل التي استعملها -صلى الله عليه وسلم- في دعوته، هي تلكم الحركة التي لا تكلف شيئا، ولا تستغرق أكثر من لمحة بصر، تنطلق من الشفتين، لتصل إلى القلوب، عبر بوابة العين، فلا تسل عن أثرها في سلب العقول، وذهاب الأحزان، وتصفية النفوس، وكسر الحواجز! تلكم هي الصدقة التي كانت تجري على شفتيه الطاهرتين، إنها الابتسامة التي لم تكن تفارق محيا رسولنا في جميع أحواله، فلقد كان يتبسم حينما يلاقي أصحابه، وإن وقع من بعضهم خطأ يستحق التأديب، تبسم صلى الله عليه وسلم - في وجهه، فهذا جرير رضي الله عنة يقول -كما في الصحيحين-: ما حَجَبني رسولُ الله - منذُ أسملتُ، ولا رآني إلا تَبَسَّم في وجهي.ويأتي إليه الأعرابي بكل جفاء وغلظة، ويجذبه جذبة أثرت في صفحة عنقه، ويقول: يَا مُحَمَّدُ مُرْ لِي مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي عِنْدَكَ! فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - فَتبسم ثُمَّ أَمَرَ لَهُ بِعَطَاءٍ. بل لم تنطفئ هذه الابتسامة عن محياه الشريف، وثغره الطاهر حتى في آخر لحظات حياته، وهو يودع الدنيا - صلى الله عليه وسلم - يقول أنس - كما في الصحيحين -: بينما الْمُسْلِمُونَ في صَلاَةِ الْفَجْرِ مِنْ يَوْمِ الإِثْنَيْنِ وَأَبُو بَكْرٍ يُصَلِّي بَهُمْ لَمْ يَفْجَأْهُمْ إِلاَّ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَدْ كَشَفَ سِتْرَ حُجْرَةِ عَائِشَةَ، فَنَظَرَ إِلَيْهِمْ وَهُمْ فِي صُفُوفِ الصَّلاَةِ. ثُمَّ تَبَسَّمَ! ولهذا لم يكن عجيبا أن يملك قلوب أصحابه، وزوجاته، ومن لقيه من الناس!. فهو القائل: "إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم فليسعهم منكم بسط الوجه وحسن الخلق".
بل سنّ لأمته وشرع لها هذا الخلق الجميل، وجعله من ميادين التنافس في الخير، فقال: (وتبسمك في وجه أخيك صدقة).وإذا كان نبي الله سليمان عليه السلام قد تبسم لنملة صغيرة عندما سمعها تُحذر قومها من جيشه كما قال تعالى ﴿ فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ ﴾ [النمل: 19]. فما أحوجنا إلى تبسم الأخ في وجه أخيه، والجار في وجه جاره في زمن طغت فيه المادة وقلت فيه الألفة وكثرت فيه الصراعات، وما أحوجنا إلى تبسم الرجل في وجه زوجته في زمن كثرت فيه المشاكل الاجتماعية فلا ترى إلا عبوس الوجه وتقطيب الجبين وكأنك في حلبة صراع من أجل البقاء!
يأتي رجل فقير من المسلمين إلى عمر بن الخطاب فقال:
يا عمر الخير جزيت الجنة اكْسُ بنياتي وأمهنه وكن لنا في ذا الزمان جُنّة أقسم بالله لتفعلنه
فتبسم عمر قائلًا: وإذا لم أفعل يكون ماذا؟ فقال الرجل:
أبا حفص غدًا عنه لتسألنه يوم تكون الأعطيات منة وموقف المسئول بينهنه إما إلى نار وإما إلى جنة
فخلع عمر الجلباب الذي كان يلبسه وقال: خذ هذا ليومٍ تكون الأعطيات منة.
عباد الله: ما أجمل أن نبتسم في وجوه الصغار والأيتام فندخل السرور إلى نفوسهم ونرسم البسمة على شفاههم، وإن ذلك لمن أحب الأعمال وأعظمها أجرًا عند الله...
قُتل عبد الله الأنصاري رضي الله عنه يوم أحد وحمل إلى المصطفى - صلى الله عليه وسلم - وهو ملفوفٌ في ثيابه مقَطع بالسيوف، لكن في سبيل الله فأخذ ابنه جابر يبكي والصحابة يهدئونه؛ فالتفت الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى جابر وقال: «ابك أو لا تبك والذي نفسي بيده ما زالت الملائكة تظله بأجنحتها حتى رفعته» (رواه مسلم)،
وقال - صلى الله عليه وسلم - لجابر يومًا بعد ذلك: «يا جابر ما لي أراك منكسرًا»! فقال جابر: "يا رسول الله، استُشهد أبي وترك عيالًا ودينًا" فقال: «أفلا أبشرك بما لقي الله به أباك؟ قال: بلى، قال: ما كلم الله أحدًا قط إلا من وراء حجاب،وكلم أباك كفاحا فقال يا عبدي تمن علي أعطك قال يا رب تحييني فأقتل فيك ثانية فقال الرب تبارك وتعالى إنه سبق مني أنهم إليها لا يرجعون ) صحيح الألباني عند ذلك تبسم جابر..
عباد الله : ومع وضوح هذا الهدي النبوي ونصاعته، إلا أنك ترى بعض الناس يجلب إلى نفسه وإلى أهل بيته ومن حوله الشقاء بحبس هذه الابتسامة في فمه ونفسه. إنك تشعر أن بعض الناس -من شدة عبوسه وتقطيبه- يظن أن أسنانه عورةٌ من قلة ما يتبسم! فأين هؤلاء عن هذا الهدي النبوي العظيم. نعم.. قد تمر بالإنسان ساعات يحزن فيها، أو يكون مشغول البال، أو تمر به ظروف خاصة تجعله مغتمًّا، لكن أن تكون الغالب على حياة الإنسان "التكشير"، والانقباض، وحبس هذه الصدقة العظيمة، فهذا والله- من الشقاء المعجّل لصاحبه والعياذ بالله.
نعم عباد الله هناك طبقة من الناس حرموا من هذا الخلق الجميل فما ترى أحدهم إلا مقطب الجبين كالح الوجه لا يعرف ابتسامة ولا ترى على خلقه وسامة، حتى وإن قابلك بعد طول غياب وأنت من أقرب الأصحاب والأحباب فإنه يقابلك بوجه مكفهر وكأنك عملت به ما عملت، إن هذا خلق بغيض خلاف ما كان عليه خلق النبي صلى الله عليه وسلم - الذي كان يبتسم لأصحابه ويبتسم لأعدائه. إن الذي يعيش على هذه الحال إنسان سوداوي المزاج يعيش في عزلة عن الناس لا يحبه أحد ولا يأنس به أحد ولا يقترب منه أحد، فالناس يحبون سلس الأخلاق كريم الطباع. ولهذا أوصى ابن عمر (رضي الله عنهما) ابنه فقال: "بنيّ إن البر شيء هيّن وجه طليق وكلام ليّن"..
عباد الله : إن الابتسامة أكبر عامل في حل مشاكل الخلافات بين البشر وخاصة ما بين الزوجين فلو احتدم النزاع وحمل كل واحد منهم على صاحبه ما حمل وتوترت الأمور ثم بادر أحد الزوجين بالابتسامة للآخر لتزحزح ذلك الجبل من الغضب ولعادت الحياة إلى مجراها الطبيعي
فيجب على البشر عامة وعلى المسلمين خاصة أن يستخدموا هذا الدواء الناجع لعلاج أمراض الحقد والغضب فإنه كفيل بإذن الله بالشفاء العاجل. ولا ننسى الحديث : (تبسمك في وجه أخيك صدقة).
أقول ما تسمعون واستغفر الله لي ولكم
عباد الله: هل سمعتم عن الابتسامة المحرمة؟ هل سمعتم عن باب من أبواب النفاق مشكلة الناس اليوم أن أخلاقهم صارت تجارية نفعية، يعني لا يبتسمون إلا بصعوبة وليس لأي شخص تكون هذه الابتسامة. أصبح الواحد منا لا يبتسم ولا يتلطف إلا لمن كان يرجو منه مصلحة. وهذه هي الابتسامة المحرمة الابتسامة الصفراء بل الكثيرٌ من الناس يعتقد أن تقطيب الحاجبين، وتعبيس الوجه، هي من صفات القوة والرجولة .
عباد الله : كن صاحب ابتسامة مع الجميع فابتسامة المرء شعاع من أشعة الشمس ولنعلم أن الابتسامة لا تكلف شيئا ولكنها تعطي كثيرا فوق ما نتصور.. كم نحتاج إلى إشاعة هذا الهدي النبوي الشريف، والتعبد لله به في ذواتنا، وبيوتنا، مع أزواجنا، وأولادنا، وزملائنا، فلن نخسر شيئا! بل إننا سنخسر خيرا كثيرا -دينيا ودنيويا- حينما نحبس هذه الصدقة عن الخروج إلى واقعنا المليء بضغوط الحياة.
لقد أرسى الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم خُلق البسمة والبشاشة، وعلّم الإنسانية هذه اللغة العالمية اللطيفة بقوله وفعله وسيرته العطرة،
تعليقات
إرسال تعليق