وداع العام
عباد الله :.نحن الآن على طرف قنطرة نوشك أن نعبرها ، لتستقر أقدامنا على طرف قنطرة أخرى ، فخطوة نودع بها ،وأخرى نستقبل بها ، نقف بين قنطرتين مودعين ومستقبلين ، مودعين موسما كاملا أودعنا فيه ما شاء الله أن نودع ، فخزائن بعضنا ملأى بما هو له ، وخزائن بعضنا ملأى بما هو عليه ، ومن الناس من جمع ما له وما عليه .عباد الله :.إن هذه الجمعة هي آخر جمعة في هذا العام ، الذي أوشك رحيله ، وصدق الله ومن أصدق من الله قيلا ومن أصدق من الله حديثا
{يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّأُوْلِي الْأَبْصَارِ} (44) سورة النــور
{ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ َ} (140) سورة آل عمران
{ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا َ} (54) سورة الأعراف
وهذا السير الحثيث يباعد عن الدنيا ويقرب إلى الآخرة ، يباعد من دار العمل ويقرب من دار الجزاء ، ( عن علي رضي الله عنه قال ارتحلت الدنيا مدبرة وارتحلت الآخرة مقبلة ولكل واحدة منهما بنون فكونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا فإن اليوم عمل ولا حساب وغدا حساب ولا عمل) . رواه البخاري
نسير إلى الآجال في كل لحظـــــــة وأعمارنا تطوى وهن مراحــــل
ترحل من الدنيا بزاد من التقـــــــى فعمــرك أيـــام وهن قلائــــــــل
وما هذه الأيـــــــام إلا مراحـــــــــل يحد بها حاد إلى الموت قاصـد
وأعجـــب شيء لـــو تأملـت أنهـــا منازل تطوى والمسافر قاعــد
عباد الله :.
أزف رحيل هذا العام، فها هو يطوي بساطه ، ويقوض خيامه ، ويشد رحاله ، وكل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها ، عام كامل تصرمت أيامه ، وتفرقت أوصاله ، وقد حوى بين جنبيه حكما وعبرا، وأحداثا وعظات ، فلا إله إلا الله كم شقي فيه من أناس، وكم سعد فيه من آخرين ، كم طفل قد تيتم ، وكم امرأة قد ترملت ، وكم من مريض قد تعافى ، وسليم في التراب قد توارى ، أهل بيت يشيعون ميتهم ، وآخرون يزفون عروسهم ، دار تفرح بمولود ، وأخرى تعزى بمفقود ، وآلام تنقلب أفراحا ، وأفراح تنقلب أتراحا ، أحدهم يتمنى زوال يومه ليزول معه غمه وهمه ، وآخر يتمنى دوام يومه ليتلذذ بفرحه وسروره ، أيام تمر على أصحابها كالأعوام ، وأعوام تمر على أصحابها كالأيام .
مرت سنون بالوئام وبالهنـــــــا فكأننــــا وكأنهــا أيـــــــــــــــــــــام
ثم أعقبت أيام سوء بعدهـــــــــا فكأننــا وكأنهـــا أعــــــــــــــــــــوام
وهكذا الأيام دواليك ، تغير أحوال وتبدل أشخاص ، فسبحان الله ما أحكم تدبيره وما أجل صنعه ، أمور تزيد العاقل عظة وعبرة وتنبه الجاهل من سبات الغفلة ومن لم يعتبر بما يجري حوله فقد غبن نفسه .
عباد الله :.
تختلف رغبات الناس ويتغاير شعورهم عند انسلاخ العام ، فمنهم من يفرح ومنهم من يحزن ، ومنهم من يكون بين ذلك سبيلا ، فالسجين يفرح بانسلاخ عامه لأن ذلك مما يقرب موعد خروجه ، فهو يعد الليالي والأيام على أحر من الجمر وقبلها تمر عليه الشهور والأعوام دون أن يشعر بها فكأنه يحاكي قول القائل ،
أعد الليالي ليلة بعد ليلة وقد عشت دهرا لا أعد اللياليا
وآخر يفرح بانقضاء العام ، ليقبض أجرة مسكن حتي يستثمر ريعها وأرباحها وآخر يفرح بانقضاء عامه من أجل ترقية وظيفية إلى غير ذلك من المقاصد التي تفتقر إلى المقصد الأسمى وهو المقصد الأخروي فالفرح بقطع الأيام والأعوام دون اعتبار وحساب ِلما كان فيها ويكون بعدها هو من البيع المغبون
فالعاقل من اتعظ بأمسه ، واجتهد في يومه واستعد لغده ، فلا يفرط في شيء من لحظات عمره ، إلا بما يعود عليه بالنفع في الدنيا و الآخرة ، فالعمر قليل والأجل قريب ، ومهما طال الأمد فلكل أجل كتاب .
قيل لنوح عليه السلام وقد لبث مع قومه ألف سنة إلا خمسين عاما كيف رأيت هذه الدنيا فقال كداخل من باب وخارج من آخر
عباد الله :.
إن تعاقب الشهور والأعوام على العبد قد يكون نعمة له أو نقمة عليه ، فطول العمر ليس نعمة بحد ذاته ، فإذا طال عمر العبد ولم يعمره بالخير فإنما هو يستكثر من حجج الله تعالى عليه ( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم خير الناس من طال عمره وحسن عمله وشر الناس من طال عمره وساء عمله ) صحيح الألباني
اللهم اجعلنا ممن طالت أعمارنا وحسنت أعمالنا ولا تجعلنا ممن طالت أعمارنا وساءت أعمالنا
عباد الله :.
إن هذا العام الذي سيولى مدبرا قد ذهب ظرفه ، وبقي مظروفه ، بما أودع فيه العباد من الأعمال ، وسيرى كل عامل عمله {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَاللّهُ رَؤُوفُ بِالْعِبَادِ} (30) سورة آل عمران
سيرى كل عامل عمله ، ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة ، وما ربك بظلام للعبيد ، سيسأل العبد عن جميع شؤونه في الدنيا ، وربه أعلم به ولكن ليكون الإنسان على نفسه بصيرة.
( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تزول قدما ابن آدم يوم القيامة من عند ربه حتى يسأل عن خمس عن عمره فيما أفناه وعن شبابه فيما أبلاه وماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه وماذا عمل فيما علم ] . صحيح
فالحذر الحذر من التفريط والتسويف
( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ) أخرجه البخاري
أقول ما سمعتم واستغفر الله لي ولكم فاستغفروا الله
الخطبة الثانية
عباد الله :.تستقبل الأمة الإسلامية عامها الهجري الجديد ، وجسدها الإسلامي مصاب بجراحات كثيرة ، بل لا يكاد جرح يبرأ حتى تنتكث جراحات أخرى ، جهل وحرب وفقر وجوع ، وتشريد وتهديد ، وذلك واضح ومعلوم فيما يقرأ ويسمع ويشاهد ، بل قد يقال لم يعد مستغربا حصول قارعة تنزل بجماعة من المسلمين أو تحل قريبا من دراهم .
معاشر المسلمين إن الناظر بعين الإنصاف والبصيرة، يعلم أن ما أصاب المسلمين، إنما هو من جراء أنفسهم وذنوبهم ، كما قال تعالى {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ} (30) سورة الشورى
{أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (165) سورة آل عمران
عباد الله :.
ليس تعداد مصائب الأمة وجراحاتها من باب إدخال اليأس والقنوط على النفوس، معاذ الله من ذلك ، فعلى رغم ما حصل ويحصل في أمة الإسلام من المصائب إلا أن الخير باق فيها إلى قيام الساعة ، ولكن يذكر ذلك من باب شحذ الهمم وإيقاظ العزائم في نفوس المسلمين ، لأن حال كثير من المسلمين على اختلاف بلاد العالم الإسلامي حال يرثى لها ، بسبب التبعية لأعداء الإسلام ، والإعجاب بهم إعجابا مطلقا، إضافة إلى انحلال كثير من المسلمين من قيم الإسلام وآدابه ، أدى ذلك وغيره إلى غياب معالم الإسلام لا على مستوى أفراد بل على مستوى مجتمعات ، بل إن بعض المسلمين أصبح عونا لأعداء الإسلام ومكثرا لسوادهم وذلك بتسخير نفسه وقلمه وفكره لحرب الإسلام والمسلمين.
تعليقات
إرسال تعليق