وجوب بر الأم
أما بعد عباد الله: حديثي إليكم في هذا اليوم المبارك عن أعظم ريحانة في هذه الحياة، هي التي طالما سهرت من أجل أن تنام، وطالما تعبت من أجل أن ترتاح وتسعد؛ حديثي إليكم عن مربية الأجيال، ومعدة الأبطال، وصانعة الرجال؛ إنها الأم...فإذا أردت الصحة والمال والعافية والبركة في العلم والفكر والأولاد فعليك ببر أمك، وكيف يبتغي السعادة والراحة أولئك الذين ليس للأم مكانة عندهم ؟.
عباد الله : الأم هي أعظمُ هبة في هذه الحياة، وهي الحب إذا ذُكر الحب، وهي الجمال عندما يُذكر الجمال، وهي العطاء إذا ذُكر العطاء؛ فإذا أردت أعظم طريق وأقصر طريق إلى الجنة فهو طريق الأم الغالية والبرّ بها، كيف لا؛ والرسول -صلى الله عليه وسلم- يقول لمعاوية عندما أراد الغزو "أأُمّك حيّة؟" قال: نعم. فقال -صلى الله عليه وسلم-: "الزم رجليها؛ فإنَّ الجنة تحت قدميها".ودائماً ننظر إلى الشموخ في الارتفاع، إلا عند الأم، فكلما نزلت فأنت شامخٌ، وكلما تواضعت فأنت شامخٌ؛ قال الله -تعالى-: (وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا) [الإسراء:24].
عباد الله : لا حق على الإنسان أعظم وأكبر -بعد حق الله تعالى وحق رسوله صلى الله عليه وسلم- من حقوق الوالدين، تظاهرت بذلك نصوص الكتاب والسنة، وأخذ الله تعالى ميثاق من كانوا قبلنا عليه: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً) [البقرة: 83]، وأوجبه سبحانه في شرعنا بأقوى صيغة، وأبلغ عبارة، وقرنه بتوحيده والنهي عن الشرك به: (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً) [النساء:36]، (وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً) [الإسراء:23]
، فعبر عنه بصيغة القضاء التي هي من أقوى صيغ الأمر والإلزام؛ فإن قضاء القاضي نافذ، والله تعالى أحكم الحاكمين وأعدلهم وأقواهم، بل جعل سبحانه بر الوالدين من وصاياه التي وصى بها عباده: (قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً) ثم ختمها سبحانه بقوله: (ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) [الأنعام:151].
والأم مقدمة على الأب في البر، ولها من الحقوق على الابن أكثر من حقوق أبيه عليه؛ لأن الشرع المطهر جاء بذلك؛ ولأنها أضعف الوالدين؛ ولأنها الحامل والوالدة والمرضع: (حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ) [لقمان:14]، وفي آية أخرى: (حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً) [الأحقاف:15]. وفي المحرمية قُدِّمت الأم على سائر محارم الرجل: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ...) الآية [النساء:23].
ولا أحد من الناس أشد رحمةً ولا أكثر خوفًا من الأم على ولدها، وفي قصة إسماعيل وأمه -عليهما السلام- تظهر رحمة الأم وشفقتها حين نفد ماؤها، وجف لبنها، وخشيت على رضيعها، ولم تطق النظر إليه وهو يتألم من الجوع، فهامت في جبال مكة تبحث عن الماء، وكانت في كل صعود وهبوط على الصفا والمروة تعود لرضيعها لتطمئن عليه.
وتظهر رحمة الأم وشفقتها في قصة أم موسى -عليه السلام- مع ابنها حين وضعته في التابوت وألقته في اليم؛ إذ أمرت أخته بتتبع خبره، والسؤال عنه: (وَقَالَتْ لأُخْتِهِ قُصِّيهِ) [القصص:11]، وقد أخبر الله تعالى عن حزن الأم بفقد ولدها فقال سبحانه: (فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ) [القصص:13]، وذكر الله تعالى موسى -عليه السلام- بهذه النعمة العظيمة حين جمع شمله بأمه وهو رضيع: (فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ) [طه:40]، فهذا هو قلب الأم.
فويل ثم ويل لمن فرَّق بين أم وولدها بسبب خلاف بين الزوجين او غير ذلك ؛. وقد روى ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: كنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في سفر، فانطلق لحاجته، فرأينا حمرةً معها فرخان، فأخذنا فرخيها، فجاءت الحمرة فجعلت تفرش، فجاء النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: "من فجع هذه بولدها؟! ردوا ولدها إليها". رواه أبو داود.
وكم فجعت أم مسلمة بأولادها حين حيل بينها وبينهم؛ لأن أباهم طلقها أو هجرها!!
وحين غضب موسى على هارون -عليهما السلام- لما عبدت بنو إسرائيل العجل، وجره بشعره، ذكَّره هارون بأخوة الأم، مع أن الأصل انتساب الولد لأبيه لا لأمه: (قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي)[الأعراف:150]، وفي آية أخرى: (قَالَ يَا ابْنَ أُمّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي) [طه:94]، وما ذاك إلا استعطافًا له؛ لأن الأم أشد عطفًا، وأكثر رحمةً بالأولاد من الأب.
وتكلم عيسى في المهد مخبرًا أن الله تعالى أوصاه ببر أمه مع فريضتيْ الصلاة والزكاة؛ فقال -عليه السلام: (وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً * وَبَرّاً بِوَالِدَتِي) [مريم:31-32].
والأم أولى من الأب في البر وحسن الصحبة، دلت على ذلك أحاديث عدة؛ فروى أبو هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رجل: يا رسول الله: من أحق الناس بحسن صحابتي؟! قال: "أمك، ثم أمك، ثم أمك، ثم أبوك". رواه الشيخان
وبناءً على هذه الأحاديث المثبتة للأم ثلاثة حقوق، وللأب حق واحد؛ فإنه ينبغي للولد أن يصرف ثلاثة أرباع برِّه لأمه، وربعه لأبيه، وكثير من الناس يضعف فقههم عن ذلك.
وعقوق الأم أشد جرمًا من عقوق الأب، وإن كان كل العقوق جريمةً، وقد نص النبي -صلى الله عليه وسلم- على أن الله تعالى حرم علينا عقوق الأمهات.
وتجب صلة الأم وبرها وحسن صحبتها ولو كانت كافرةً، مع عدم طاعتها في المعصية: (وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً) [لقمان:15]، وقالت أسماء بنت أبي بكر -رضي الله عنهما-: قدمت عليّ أمي وهي مشركة في عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فاستفتيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قلت: إن أمي قدمت وهي راغبة، أفأصل أمي؟! قال: "نعم، صلي أمك". رواه الشيخان.
. وكان أبو هريرة -رضي الله عنه- إذا أراد أن يخرج من بيته وقف على باب أمه، فقال: "السلام عليك يا أماه ورحمة الله وبركاته، فتقول: وعليك السلام يا ولدي ورحمة الله وبركاته. فيقول: رحمك الله كما ربيتني صغيرًا. فتقول: رحمك الله كما بررتني كبيرًا، وإذا أراد أن يدخل صنع مثل ذلك".
وقد قال الخليل -عليه السلام-: (رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ) [إبراهيم: 41]
عباد الله: دعاء الوالدة مستجاب، فهذا جبريل -عليه السلام- ينزل على الرسول -صلى الله عليه وسلم- ليخبره أن هناك في أمداد أهل اليمن رجلاً يسمى أويس القرني باراً بأمّه لم يمنعه من الوصول إليك إلا أمه، فقال -صلى الله عليه وسلم-: "أويس القرني لو أقسم على الله لأبرّه".بل أمر الرسول -صلى الله عليه وسلم- كل من يقابل أويساً أن يطلب منه أن يستغفر له، قال -صلى الله عليه وسلم-: "فإن دعوته مستجابة".
اقول ما تسمعون
الخطبة الثانية:
أما بعد: يها الناس: من أراد عظيم الأجر والثواب فليعلم أن الأم باب من أبواب الجنة ، لا يفرط فيه إلا من حرم نفسه ، وكان مذهب ابن عباس -رضي الله عنهما- أن بر الأم أفضل الأعمال، وقال: "إني لا أعلم عملاً أقرب إلى الله -عز وجل- من بر الوالدة". وهو مذهب جماعة من السلف.
وقال ابن عمر -رضي الله عنهما- لرجل عنده أمه: "والله لو ألفت لها الكلام، وأطعمتها الطعام، لتدخلن الجنة ما اجتنبت الكبائر".
عباد الله-؛ إن حقوق أمهاتنا علينا كثيرة، وإن برَّهن من أعظم الواجبات، والنصوص فيه كثيرة، يكفي منها وصية الله تعالى للمسيح -عليه السلام- التي نطق بها وهو في المهد: (وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً * وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً) [مريم:31-32].
عباد الله: قد أخبر النبيّ -صلى الله عليه وسلم- عن وقوع متابعة أمّته للأمم السّابقة من اليهود والنصارى ، فعن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- أنّ النبيّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "لتتبعنّ سُننَ من قبلكم؛ شبرًا بشبرٍ وذراعًا بذراعٍ، حتّى لو سلكوا جحر ضبٍّ لسلكتموه"، قلنا: يا رسول الله: اليهود والنصارى؟! قال: "فمن؟!".
وقد تابع جهلة هذه الأمّة الأمم السابقة من اليهود والنصارى في عقائدهم ومناهجهم وأخلاقهم وهيئاتهم، وممّا يهمّنا الآن أن نُنَبِّهَ عليه في هذه الأيام، هو اتباعهم ومشابهتهم في ابتداع ما يسمّى بعيد الأمّ ، وهو اليوم الذي ابتدعه النصارى تكريمًا -في زعمهم- للأمّ، فصار يومًا معظّمًا تتعطّل فيه الحياة، ويصل فيه الناس أمّهاتهم، ويبعثون لهنّ الهدايا والرسائل الرقيقة، فإذا انتهى اليوم عادت الأمور لما كانت عليها من القطيعة والعقوق!!
تعليقات
إرسال تعليق